هل يكذب العلماء؟

المصدر shutter stock

يتساءل كثيرون حينما نناقش وننتقد الخيالات والنظريات العلمية، فيقولون: “أأنتم علماء؟ ما هي تخصصاتكم العلمية أو شهاداتكم؟ هل العلماء يكذبون؟ وما مصلحتهم من الكذب؟”

هذه الأسئلة التهكمية هي هروب ماكر من صُلب الموضوع، وتغييرٌ لمسار الحوار، وإنهُ لمِن المُعيب أن يتحول النقاش العلمي إلى شخصنة، بل النقاش العلمي ينبغي أن ينبني على الحوار الهادئ وطرح الأدلة، وأن ترد على الحجة بالحجة، لا أن تراوغ وتفتح نقاشات جانبية محاولًا تصنيف المُحاور على أنه يتبع فكر كذا أو منهج كذا.

ليس عيبًا إعادة النظر في مسألة علمية والبحث فيها بدون تحيُّز، لكن مِن المُعيب أن نمنع البحث والتساؤل والنقاش في المسائل العلمية، ومِن الوضاعة أن يُسخر مِمَن يبذل جهدًا جادًّا في البحث عن الحقائق العلمية.

أولًا: ما يطرأ على العلِم من تدخلات

التاريخ مليء بهؤلاء المزورون في مختلف المجالات، فالأبحاث والتجارب العلمية تؤثر عليها الأعراض البشرية كنقص المعلومات، والخطأ، والنسيان، والتوهم، والاعتقادات الشخصية، والبيئة المحيطة، والأنانية، والمصالح الشخصية، والتمويل البحثي، وأيضًا عدم استقلالية البحث.

الاستقلالية هو عدم تدخل الجهات الممولة للمراكز البحثية على نتائج الأبحاث وهذا صعب جدًا، فالمراكز البحثية تتحيّز للجهة المُمولة، فعلى سبيل المثال لو أن شركة ألبان ترعى مركزًا للدراسات والأبحاث؛ فلن يقوم مركز الدراسات هذا بكتابة سطر واحد عن أضرار تناول الحليب بل على العكس سيقوم المركز بتأليف دراسات عن فوائد الحليب ليرضي الممول. كذلك لو كانت الجهة الممولة سياسية أو اقتصادية أو غذائية أو دينية، فالممول يتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في نتائج الأبحاث، وحتى لا يخسر مركز الدراسات التمويل؛ فسيحرص على ألا يتعارض مع توجهات المُمول.

مما لا يخفى على أحد أن الشركات تقوم بشراء أبحاث وعلماء وتمول من أجل إرشاد العِلم حتى يصب في صالح جهة سياسية أو اقتصادية، نعم العِلم مُحايد أما العالِم فهو مُتحيز لمصالحه.

يجب عدم غض الطرف عن حقيقة وجود لوبيات ضغط السياسي ولوبيات ضغط اقتصادي الذين يعملون على التأثير على قرارات الدوائر الحكومية ومراكز البحث العلمي. فعلى عكس المُمول الذي يستميل مراكز البحث العلمي بالقوة الناعمة، فهنالك لوبيات تأثر عن طريق الضغط على القرارات، وهي الطريقة الخشنة للتأثير على مراكز البحث والباحثين؛ فبإمكان هذه اللوبيات إيقاف كاتب عن مزاولة عمله، أو منع نشر بعض الكتب، أو إجبار مراكز البحث أو دور النشر أو الباحثين على الاعتذار والتراجع عن نشر الكتب العلمية.

على سبيل المثال عندما ضُغِطَ على عالم الأحياء ريتشارد فون سترنبرج (Richard Von Sternberg) للإستقالة فقط لأنه نشر مقالًا في مجلة سمثسونيان (Smithsonian Magazine) يتحدث عن نظرية التصميم الذكي وهي تُخالف نظرية التطور الداروينية السائدة، فما كان من أنصار الداروينية إلا أن شنّوا هجومًا شرسًا على المجلة مما اضطرهم للضغط على الكاتب لكي يستقيل.

ومن أمثلة لوبيات الضغط أنه حينما قام الطبيب النفسي روبرت سبيتزر (Robert Spitzer) بنشر دراسة فيها علاج لا دوائي يُساعد الشاذين جنسيًا على التخلص من شذوذهم الجنسي، وقد نجح بعلاج مائتي حالة بملئ إرداتهم، قوبلت هذه الدراسة بهجوم عِدائي على نطاق واسع، على الرغم من أن هذا الطبيب من دُعاة حقوق الشاذين جنسيًا وساهم في إزالة تصنيف الشذوذ الجنسي من قائمة الأمراض النفسية، إلا أن هذا لم يشفع له، وتعرض لهجوم حتى أجبروه على تقديم اعتذار عن علاجه للشواذ جنسيًا.

فالخلاصة أن الطرح العلمي يتعرض لمؤثرات كثيرة (ومنها: المصالح الشخصية، والجهة الممولة للبحث، ولوبيات الضغط) كلها تؤثر في نتائج الأبحاث؛ ولذلك فلا حق لأحد في أن يمنع الناس من مُسائلة العِلم وإعادة البحث في شتى المواضيع العلمية.

ثانيًا: مثال على تزوير العِلم      

من أمثلة التزوير العلمي ما فعله تشارلز داوسون في عام 1912م، حينما ادعى أنه اكتشف بقايا جمجمة تُعد (الحلقة المفقودة) لسلسلة تطور القرد إلى إنسان، واستُقبِل هذا الاكتشاف بترحاب واسع من قِبل المؤمنين بنظرية تطور الإنسان من سلالة قِردة عُليا، والشخصيات البارزة في إنجلترا أيضًا استقبلت الاكتشاف بترحاب -كون أن الاكتشاف أضاف قيمة تاريخية لقرية بلتداون (Piltdown) التي اكتُشف فيها الجمجمة-.

ورغم اعتراض عددٍ من العُلماء على تركيب بقايا الجمجمة بمزاجية إلا أن أصواتهم طمست، وخرجت عدة أبحاث ومقالات تكشف زيف هذا الاكتشاف. بعد 41 سنة من إعلان اكتشاف الجمجمة، نشرت مجلة تايم مقالًا علميًا كتبه نُخبة من الباحثين يُبين المقال أن الجمجمة والتي سُميت (إنسان البلتداون) نسبة إلى المنطقة التي اكتشفت فيه، ما هي إلا تزوير علمي، عمل عليه تشارلز داوسون وعدد من مُستكشفي الآثار الذين سبق لهم التزوير، بحيث جمعوا بقايا جمجمة إنسان من العصور الوسطى، ودمجوها مع فك قرد من نوع أورانغتان، وأضافوا للفك ناب، وكان واضحًا على الناب آثار مِبرد أي أن هذا الاكتشاف بأكمله عبارة عن تزييف علمي مُتعمّد.

لا يزال إنسان البلتداون حتى اليوم يملئ المناهج العلمية والمقالات والكتب تحت مسميات أخرى مثل الإنسان البدائي، انظر كيف أن كذبةً أضحت حقيقة يصدقها الجميع، ما يجعلني أتسائل كم من اكتشافات أخرى مرروها علينا لأنها توافق أهواءهم؟ لاحظ أن الأمر استغرق وقتًا طويلًا جدًا لدحض الكذبة، أما الكذبة نفسها فلم تكلف صاحبها كثيرًا حتى انتشرت وحظيت بالاهتمام والاعتراف، وفَكِر في عدد الذين آمنوا بتطور الإنسان من قرود عُليا لأن “العِلم” و”العلماء” و”المناهج الدراسية” أخبروهم بذلك.

وأمثلة التزوير العلمي كثيرة بإمكانك البحث عنها إن أردت، فالمزورون لم يتركوا مجالًا إلا ودخلوه.

ثالثًا: خطورة العِلم المزور

توجد مشكلة تواجهنا ألا وهي الإيمان الأعمى بالعلِم الحديث ونظرياته وخيالاته، فمن أراد أن يضلل النّاس فما عليه سوى أن يبدأ حديثه بتلك الجُمل الرنانة كقول: أثبتت الدراسات.. اكتشف علماء.. قال خُبراء.. نقلًا عن نُشطاء.. قال مصدر مسؤول.. اتفق الفقهاء.. وهلم جرًا.

كل تلك العبارات وغيرها يحشونها حشوًا في المناهج الدراسية والكتب والصحف والمجلات والتلفزيون وبالطبع مواقع التواصل الاجتماعي، ما يجعل المُتلقي يصدق الهرطقات التي تأتي بعدها مهما كانت غير منطقية.

رأينا كيف أن المزورون اقتحموا علم الطبيعة بكذبة (إنسان البلتداون) التي دامت قرابة 40 سنة قبل أن تُدحض، وأرى أنه يحق لكل شخص أن يشك في العلوم ويطرح الأسئلة، وألا يُنظر إليه بتهكم بل أن يُفتح المجال للنقاش بالبراهين، والحجة على من ادعى.

احتجت أن أوضح لك عزيزي القارئ أن المنهج العلمي يستحق المُسائلة.. فإن رأينا تعارض بين نص ديني ومسألة علمية، فإما أن يكون النص الديني خطأ وهنا يبدأ الشخص يشك في النصوص الدينية التي بين يديه وهذه طبيعة الباحث وهو الشك، وإما أن تكون المسألة العلمية مزورة فبالتالي يكون النص الديني أولى بالاتباع، وإما أننا أسئنا فهم النص الديني أو أسئنا فهم المسألة العلمية، وقد أسلفنا كيف أن العِلم أصبح عبارة عن نظريات وخيالات لا تنتهي، ويعتريه الخطأ والتزوير.

رابعًا: العِلم المزور الذي يناقض الدين يؤدي إلى الإلحاد

بسبب اهتمامي في مقارنة الأديان واطّلاعي (المتواضع) على موضوع الإلحاد، أظن أن بإمكاني القول بأن الإلحاد يتمحور حول ثلاثة أسباب: التكاسل عن العبادات، ومشكلة الشر، وتناقض الدين مع مُخرجات العلم الحديث.

وأركز على السبب الأخير، الذي خلق قناعة لدى المُلحد أن الدين ما هو إلا أساطير الأولين، وأنه لا يتناسب مع الواقع والعلم الحديث وأن الدين من اختراع البشر!

وأيضًا بحكم اطّلاعي المتواضع على نقاشات مقارنة الأديان وأيضًا النقاشات العلمية، وجدت أن عددًا من الملحدين أصبحوا مؤمنين بوجود خالق بعدما تفكروا في الكون ومخلوقات الله، واكتشفوا أن العلم الذي منعهم من الإيمان بالله إما أنه كان ناقص، أو مشكوك به، أو مزوّر.

إن تزوير العِلم بطريقة ممنهجة مِن قبل بعض الملاحدة الذين تسيدوا المشهد العلمي، يخلق الشكوك في النفوس البشرية حول الاعتقادات الدينية، بسبب تعارض العلم الحديث “المزوّر” مع النصوص الدينية بشكل واضح، مما يضطر الناس إلى التخلي عن كل أو بعض معتقداتهم الدينية أو تأويلها بحيث تتناسب مع مُخرجات العِلم الحديث.

أخيرًا: لا تسلم عقلك لأحد

إنّ الله وهبنا الحواس الخمس وأمرنا بالتفكر، وذمّ الله تقليد الآباء والسّير على نهجهم ولو كانوا على ضلالة (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون)، كذلك ذمّ الله الأكثرية في مواضِع متعددة في القرآن حيث قال (وأكثرهم الفاسقون)، (وأكثرهم لا يعقلون)، (وأكثرهم الكافرون)، (وأكثرهم للحق كارهون)، (وأكثرهم كاذبون)، (ولكن أكثرهم لا يعلمون)، (ولكن أكثرهم يجهلون)، فعلى الإنسان ألا ينجرف خلف الأكثرية، وألا يُسلم عقله لأحد لِكُلِ مدعٍ، والأهم من ذلك ألا يتشدد لرأيه، بل يتبع الأدلة العقلية والنقلية والتجريبية بعد أن يقف على درجات قوتها وصحتها.

فلا تأخذك العواطف، أو تمنعك العادات، أو تُثنيك فكرة الأكثرية والأقلية من أن تبحث عن الحقيقة وتتقبلها.

اترك تعليقًا